المقالات

الوليمة

محمد الرياني

 

قالت له بعزَّةِ نفس : أنصحكَ بعدمِ الذهاب وأنتَ لم تُدعَ لهذه الوليمة، لدينا في القِدرِ بقايا من طعامٍ لعله يُشبعكَ وستجدُ به الملعقةَ القديمةَ لتُحرِّكَ بقاياه الملتصقةَ لسدِّ جوعك، لم يستمعْ إلى نصيحتِها، كان يسمعُ قَرعَ النِّعالِ على قارعةِ الطريقِ المارِّ بجوارِ بيتِهم ويشمُّ رائحةَ العطورِ الفاخرةِ التي تجتازُ سُورَهم القصيرَ لتستفزَّه وتدفعَه إلى الوليمة، وصلَ متأخرًا يميِّزُه ثوبُه الرماديُّ وشعرُه الكثيفُ وصوتُ أنفِه فقد كان مصابًا بالبَردِ في تلك الليلة، انسلَّ في غفلةٍ من المستقبلين الذين انهمكوا في الاحتساءِ وتقطيعِ اللحوم ، لم يجد مكانًا ليجلسَ عليه، كلُّ المقاعدِ مشغولة، بعضُهم قد انتفخَ فملأ مقعدَه وزادَ عن حجمِ المقعد، وبعضُ الطاولاتِ اكتفتْ باثنين أو ثلاثةٍ وقد وضعوا أمامَهم مذبوحًا كاملًا ،بينما الطاولاتُ الأخرى قد اكتظَّتْ بالذين اختلطتْ أصواتُهم بأصواتِ السكاكينِ والملاعقِ والرَّشفات، وقفَ منزويًا ينتظرُ واحدًا يتركُ مكانَه ليجلسَ محلَّه ولافائدة، شعَرَ ببوادرِ عُطاسٍ سيخرجُ من أنفِه وهو في غايةِ الحرَج؛ لكنه لم يستطع منعَه، انطلقُ صوتٌ مُدَوٍّ فتناثرتْ معه قطراتٌ توزعتْ كرذاذِ المطر، هنا انتبهوا واشمأزَّتْ نفوسُهم من طريقةِ عُطاسه ، بعضهم غادرَ طاولتَه وذهبَ ليغسلَ يديْه وهو ينظرُ إليه بازدراء، آخرون استمرُّوا ولم يُلقوا له بالًا، ناداه أحدُ النادلين الذين يقومون بتنظيمِ المائدةِ الباذخة، اقتربَ منه وقد غطَّى أنفَه بيدِه، ناولَه صحنًا واسعًا وطلبَ منه أن يغادرَ المكان، فرحَ بأن أُمَّه ستشاركُه وجبةً لن تتكرر، انطلقَ مسرعًا والمكانُ قريبٌ جدًّا، قفزَ من على جدارِهم القصيرفتعثَّرَ ووقعَ على الأرض، انكشفَ الغِطاءُ الموضوعُ على الصحنِ ، أقبلتْ أمه لترى الوجبةَ التي جاءَ يحملها، صاحتْ فيه تُوبِّخُه، نظرَ معها إلى الشحومِ والعظامِ التي لا تؤكل، قالت له ألمْ أنصحك يا…؟ ، تركا الصحنَ للقططِ الجائعةِ التي كانت تنتظرُ ليلةً رائعة، أمسكتْ به وقد حبسَ عبرتَه لأنه لم يستمعْ إليها، جرَّتْه إلى قِدرِهم القديمة ، تناولَ معها بقايا وجبتِهم الزائدةِ من أمس ، شعرَ أنها تساوي كلَّ الولائمِ الفاخرة، امتلأَ بطنُه بسرعة، غسلَ يديه ، نادتْه قبل أن ينام، أقبلَ إلى حضنِها ورمى نفسَه فيه، قبَّلتْ يدَه الصغيرة، نام فرأى حُلمًا عجيبًا، رأى أنه حازَ مكانَ الوليمةِ وأنه يجلسُ وحيدًا على طاولةٍ واحدة، ضحكتْ كثيرًا، قالت له : بقيَ في الإناءِ مايكفي لواحد ، سأجلبُه لك لتتناولَ طعامَ الإفطار منه ، ضحكَ حتى وقعَ على الأرضِ وأمَّه تنصحه من جديدٍ بأن لا يذهبَ إلى وليمةٍ دون دعوة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى