جائزة الكتاب العربي تعقد حلقة نقاش بعنوان جهود دور النشر تحديات وتطلعات

واكب ـ مرعي قاسم –
عقدت جائزة الكتاب العربي حلقة نقاشية تحت عنوان “جهود دور النشر في صناعة الكتاب العربي: التحديات والتطلعات”. جمع اللقاء ستة من أبرز الناشرين وصناع الكتاب في العالم العربي، في حوار صريح ومباشر أدارته الدكتورة امتنان الصمادي، المنسقة الإعلامية للجائزة، التي نجحت في استخلاص رؤى معمقة حول واقع الصناعة ومستقبلها المجهول.
شكلت الندوة منصة جامعة ضمت خبرات متنوعة من أقطار عربية متعددة، فقد شاركت الدكتورة عائشة الكواري (دار روزا للنشر، قطر)، والأستاذ محمد البعلي (دار صفصافة للنشر، مصر)، والأستاذ سالم الزريقاني (دار الكتاب الجديد المتحدة، لبنان)، والأستاذ محمد بن سيف الرحبي (مؤسسة اللُّبان للنشر، عُمان)، والأستاذ ماهر الكيالي (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الأردن)، والدكتور باسم الزعبي (دار الآن ناشرون وموزعون، الأردن).
– استهلت الدكتورة امتنان الصمادي الجلسة بكلمة ترحيبية مؤكدة أن هذا الحوار لا يهدف إلى عرض التحديات والتطلعات فحسب، وإنما هو محاولة جادة لتشخيص دقيق وبحث عن حلول مبتكرة في زمن التحولات الكبرى، حيث يقف الكتاب الورقي في مواجهة تحديات متعددة فرضتها معطيات الحياة العصرية. وحددت المحاور التي ترتكز عليها هذه الحلقة النقاشية ومنها: هوية دار النشر في العصر الرقمي، والتحديات المعاصرة في صناعة الكتاب، والتطلعات في عالم النشر، وسبل التعاون بين دور النشر من أجل النهوض بصناعة الكتاب.
من جانبه، ألقى الدكتور ناجي الشريف، المدير التنفيذي لجائزة الكتاب العربي، كلمة افتتاحية رحب فيها بالحضور، وبيّن أن الجائزة أنشئت لتكريم الكِتَاب والكُتّاب في ميدان العلوم الإنسانية وتكريمهم في فئتي الكتاب المفرد والإنجاز سواء أكانوا أفرادا أم مؤسسات، وأنها تسعى لتكون جزءا فاعلا من الحراك الثقافي الذي يصنع الكتاب العربي ويرتقي به إلى المنافسة والعالمية شكلا ومحتوى، وقال: “الكتاب العربي يسعى لحضور مميز على الساحة العالمية، ودور النشر هي النبض الحي في صناعة الكتاب لأنها مرآة تعكس هوية الأمة، ونافذة للمعرفة”.
كانت أولى المداخلات للأستاذ ماهر الكيالي، الذي بيَّن أهمية مثل هذه الحلقات النقاشية والندوات في إضاءة الطريق أمام دور النشر، وأن دور النشر قد كثرت كثرة بالغة ففي مصر وحدها ما يقرب من 1500 دار نشر، وصارت في كل بلد عربي دور نشر متعددة، لكن هذا الانتشار الواسع لها في كل البلدان العربية -رغم إيجابيته الظاهرية- يخلق فوضى وتشتتا ما لم يواكبه تعاون حقيقي. ودعا إلى تنشيط المؤسسات النقابية وتفعيل النشر المشترك بين المؤسسات ودور النشر في مجالات عديدة ومتنوعة لتخفيف التكاليف وتوسيع قاعدة التوزيع بحيث يصل الكتاب لكل قارئ عربي بسهولة ويسر وأقل التكاليف، لكن التحدي الأكبر الذي شخصه الكيالي كان تآكل قاعدة القراء، فقد كان هناك تدنٍ في مستوى القراءة ثم تراجع وأوضح قائلاً: عندما نتحدث عن تراجع طباعة الكتاب من ثلاثة آلاف نسخة في السبعينيات إلى ألف نسخة اليوم، فنحن لا نتحدث عن أرقام، بل عن تراجع ثقافي خطير. كما انتقد غياب التنسيق بين معارض الكتب العربية، الذي يضع الناشرين أمام خيارات صعبة ويشتت جهودهم ومواردهم المحدودة.
أما الأستاذ سالم الزريقاني، فقد تحدث عن المنتج الثقافي نفسه، منتقدا التراجع في جودة الكتاب العربي، وبين أن ما تقدمه التكنولوجيا من وسائل يجب ألا يؤثر سلبا على جودة النص. وطرح فكرة النشر المتخصص حلا للخروج من حالة النشر العشوائي، قائلاً: “نحن نفتقد إلى دور نشر متخصصة في مجالاتها، كالأدب المترجم، أو كتب الأطفال، أو تحقيق التراث. السوق مليء بالعموميات”. وحذر من نشر أعمال لا تقدم إضافة معرفية حقيقية، داعيا إلى تبني معايير تحكيم صارمة وسرية، وتطرق الزريقاني إلى خطر جديد يهدد جودة المحتوى، وهو الترجمة اعتمادا على التطبيقات الإلكترونية أو ما يعرف بالترجمة الآلية، حيث يعتمد بعض المترجمين على التطبيقات الإلكترونية، فينتجون نصوصا مشوهة تفتقر إلى الدقة. ودعا دور النشر إلى التواصل مع المؤلفين وإلى عدم نشر إلا ما فيه الجدة والإضافة النوعية قائلا: “يجب أن تبتعد دور النشر عن نشر كل ما هو هامشي وعدم نشر أي كتاب لا يقدم إضافة معرفية”. وإلى تطبيق سياسة الأهم ثم المهم في نشر الكتب، كما تطرق إلى أن أبرز التحديات هي أن قوانين الطباعة والنشر قديمة جدا وتعود في بعض البلدان إلى العهد العثماني، ولا من تحديثها وسن تشريعات حماية الملكية الفكرية تواكب العصر الرقمي، فضلا عن أن هناك تحديات ناتجة من فرض الجامعات لشروط الترقيات الأكاديمية والبحث عن التصنيف وهو ما يضطر الباحثين إلى نشر أبحاثهم وكتبهم في دور عالمية حتى إن كان ذلك مكلفا أو بأسماء وهمية ما دام يحقق شروط الترقية الأكاديمية.
من جانبه قدم الأستاذ محمد البعلي رؤية استشرافية من خلال تجربة دار صفصافة، التي وضعت العالمية نصب أعينها، وأوضح أن الترجمة لم تكن مجرد نقل نصوص، وإنما هي بناء جسور ثقافية وسبيل إلى العالمية معتبرا أن المترجمين أفضل من يفتح النوافذ نحو العالمية، وأن الوطن العربي زاخر بالكفاءات التي تعمل في الترجمة. واستعرض تجربة الدار في الانفتاح على آداب الشرق الأقصى عبر سلاسل الأدب الكوري والصيني بالتعاون مع مؤسسات كورية وصينية، لتعريف القارئ العربي بأدب هذه البلدان ونتاجها الفكري والسياسي والاجتماعي، مبينا أنها تشهد إقبالا متزايدا من الجمهور العربي. وقدم البعلي معادلة دقيقة لوصف صناعة النشر، فهي صناعة ثقافية إبداعية تقف بين حدود الصناعة التي تهدف إلى إسعاد الناس، وبين الرسالة الأكاديمية التي تسعى لخلق المعرفة، ولا بد من الموازنة بينهما. وأكد أن صناعة النشر واسعة جدا ولا إشكال في أن تتعدد أهدافها وتتنوع بين الربحية والنخبوية، فلكل منهما حدوده وجمهوره. ولكي تنجح في أداء رسالتها كان من الواجب عليها التشبيك مع المؤسسات الرسمية والأهلية، الثقافية والتعليمية المختلفة، والتواصل مع الجيل الرقمي الجديد.
من جانبها، قالت الدكتورة عائشة الكواري إن دار النشر اليوم لم تعد مهمتها طباعية فقط، وإنما تحولت إلى مؤسسة متكاملة في صناعة الكتاب، فهي تقوم بدور التحكيم والتدقيق والطباعة والنشر والتوزيع والتسويق فضلا عن البصمة الثقافية، وأنها صانعة محتوى بكل معنى الكلمة، فهي تقدم الكتب الصوتية والسمعية وتسهم في تحويل كثير من الكتب إلى أعمال درامية وتلفازية، كذلك أصبحت دور النشر مسؤولة عن اكتشاف المبدعين والمواهب وحراسة الثقافة وتصنع المحتوى حين تحول الفكرة الأولية عند المؤلف إلى كتاب ثم إلى عمل مسموع أو مرئي أو تلفازي. وشددت على أن التحول الرقمي ليس تهديدا بقدر ما هو فرصة هائلة إذا أحسنا استغلاله. وقالت: “دور النشر جزء من الانفجار المعرفي، ولا بد أن تعيد صياغة رسالتها وأن تكون متفاعلة مع الجمهور ومع كل تطور جديد وأن تكون مواكبة للتطور الحاصل”. وأضافت أن من مهام دور النشر اكتشاف المواهب ورعايتها وتشجيع الشباب والأخذ بأيديهم وحماية حقوق الملكية الفكرية والمحافظة على المستوى المعرفي والفكري وفتح الباب أمام الجمهور والكتاب ليصل إلى الجميع رغم أن صناعة النشر مكلفة جدا مع تراجع نسبة القراءة وعدد النسخ المطبوعة وبالتالي تراجع مستوى الربحية، لكن لا بد من الاستفادة من التكنولوجيا التي وفرت خدمات هائلة في ذلك وأحدثت تحولا كبيرا في صناعة الكتاب والنشر.
الدكتور باسم الزعبي حلل التحديات من زاوية المتلقي، وبين أن هناك تحديات كلاسيكية، وأن هناك تحديات أفرزتها التكنولوجيا، ومن ابرزها ملاحظة التدني ثم التراجع في اهتمام الناس بالقراءة وتراجع في دور المؤسسات الثقافية والتعليمية في التحفيز على القراءة بما يتناسب وحجم التحديات، محذرا من ظاهرة الأمية الثقافية لدى الجيل الجديد. وقال: “من غير المنطقي أن يمر عام كامل على طالب جامعي دون أن يقرأ كتابا واحدا خارج تخصصه. هذا مؤشر خطر”. وأرجع ذلك إلى هيمنة الوسائط الرقمية التي غيرت أنماط التلقي نحو الاستهلاك السريع والسطحي للمعلومات. كما حذر من تفاقم عمليات السطو المعرفي والقرصنة الإلكترونية التي تقتل الصناعة ببطء وتثبط عزيمة المؤلفين والناشرين على حد سواء.
واختتمت المداخلات بشهادة شخصية من الأستاذ محمد بن سيف الرحبي الذي روى كيف أسس دار نشر في عُمان؛ في بلد صغير وعدد قراء قليل في ظروف استثنائية أيام انتشار وباء كورونا، عندما كانت الحياة تغلق أبوابها، فقد قرر التحدي وأصرَّ على الاستمرار، فقال: “دخلت عالم النشر محبا وكاتبا ولا علاقة لي بالنشر من حيث هو صناعة”، واعتبر تجربته دليلا على أن النشر فعل مقاومة ثقافية فقد استمر رغم كل التحديات التي تواجهه، وكشف بصراحة عن المفارقة المؤلمة التي يعيشها الناشرون فقال: “عدد الذين يريدون أن يكتبوا وينشروا كتبهم أكثر بكثير من عدد الذين يريدون أن يقرؤوا ويشتروا الكتب”. ودحض بقوة الفكرة الشائعة بأن دور النشر تتربح من المؤلفين، مبينا أن التكاليف الباهظة للتحرير والطباعة والتسويق والتوزيع تستهلك الجزء الأكبر من أي عائدات، وأن قدر دور النشر العربية أن تكون أقرب إلى مطبعة أو شركة تسويق وعليها أن تبحث عما يعوض سلاسل الإمداد، مع أنها مركز ثقافي يستقطب الآخر من خلال المكتبات، وعليه التشبيك مع الجامعات والمراكز البحثية والثقافية، وتطوير رؤية الدار التي كانت في البداية تعنى بالكمّ فأصدرت عددا كبيرا من الكتب، والآن نتجه إلى الكيف والنوعية وفق رؤية جديدة.
وفي ختام الحلقة النقاشية التي امتدت لأكثر من ساعة ونصف من الحوار والمداخلات، شكرت الدكتورة امتنان الصمادي المشاركين والحضور، وبينت أهمية هذه الحلقات النقاشية والتعاون بين دور النشر في صناعة مستقبل الكتاب العربي الذي هو مسؤولية مشتركة تتطلب رؤية جديدة وتعاونا بنّاء، موضحة أن جائزة الكتاب العربي انطلقت برعاية كريمة من سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني حفظه الله لترتقي بالكتاب إلى مصافي العالمية وتكريم الكتّاب والمؤلفين المتميزين في فئتي الكتاب المفرد والإنجاز ضمن مجالات الجائزة الخمسة التي هي: الدراسات الأدبية واللغوية، الدراسات الفلسفية والاجتماعية، والدراسات التاريخية، والعلوم الشرعية والدراسات الإسلامية، والمعاجم والموسوعات وتحقيق النصوص.



