مركز الملك فيصل يناقش رؤية العطاس لإحياء الوعي الإسلامي

واكب ـ مرعي قاسم – الرياض-
برعاية وحضور صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل، رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، نظَّم المركز، محاضرةً بعنوان «الأستاذ سيد محمد نقيب العطاس وإرثه العلمي المميّز»، قدّمها الأستاذ الدكتور مسعود إدريس، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية في جامعة الشارقة، ضمن البرنامج الثقافي للمركز، بحضور نخبة من الباحثين والأكاديميين والمهتمين بالفكر الإسلامي والفلسفة والتربية.
استُهِلَّت المحاضرة بكلمة للدكتور عبد الله حميد الدين، مساعد الأمين العام للشؤون العلمية، أوضح فيها أن استحضار تجربة العطاس لا يهدف إلى الاحتفاء بالماضي، بل إلى إعادة وصل الفكر الإسلامي بقدرته على إنتاج المعنى في الحاضر، مؤكدًا أن قراءة أعمال العطاس تتيح فهمًا أعمق لطبيعة الأزمة الفكرية التي يعيشها المسلمون اليوم بين انبهارٍ بالحداثة وانقطاعٍ عن الجذور. وأضاف أن المركز من خلال هذه اللقاءات يسعى إلى تقديم مفكرين تركوا أثرًا حقيقيًّا في إعادة تعريف العلاقة بين المعرفة والدين والإنسان، وأن فكر العطاس مثال نادر على تزاوج الأصالة بالعمق الفلسفي.
وفي تقديمه للمحاضرة، أشار الدكتور حميد الدين إلى أن العطاس لم يكن مُنَظِّرًا فحسب، بل مؤسسًا لمشروعٍ متكاملٍ لإعادة بناء الوعي الإسلامي على أسسٍ معرفية وأخلاقية، مشددًا على أهمية الحوار مع فِكْرِهِ؛ لفهم تحديات العلمنة وانفصال القيم عن المعرفة في عالمنا المعاصر.
بعد ذلك تناول الأستاذ الدكتور مسعود إدريس المحاور الرئيسة لفكر العطاس، مبينًا أنه قدَّم رؤيةً ميتافيزيقيةً متكاملةً للوجود والمعرفة والإنسان، تنطلق من الوحي بوصفه المصدر الأعلى للعلم، في مقابل الرؤية الغربية التي تقوم على الانفصال بين العقل والغيب. وأوضح أن العطاس رأى في أزمة العالم الإسلامي نتيجةً لفقدان الرؤية الوجودية الإسلامية والأدب، أي وضع الأشياء في مواضعها الصحيحة على أساس العلم الحق، وهو المفهوم الذي يعدّه الأساس الأخلاقي والمعرفي للحضارة الإسلامية.
وأشار إدريس إلى أن العطاس مَيَّزَ بين العلمنة العملية المقبولة التي تُنظِّم شؤون الحياة اليومية، والعلمنة الفكرية المرفوضة التي تنكر الغيب وتستبعد المطلقات من المجال المعرفي، معتبرًا أن الحلّ يكمن في تنميةٍ متوازنةٍ تجمع بين الانخراط الواعي في العصر الحديث والحفاظ على الحقائق الميتافيزيقية التي يقوم عليها الإسلام.
وفي سياق حديثه عن العدالة والعلم والتعليم، أوضح المحاضر أن العدالة عند العطاس تعني وضع الأشياء في مواضعها الصحيحة، وأنها لا تتحقق إلا بالمعرفة؛ فغياب العلم الحقّ يفضي إلى غياب العدل، ومن ثم إلى اختلال المجتمع. ولذلك دعا العطاس إلى تعليمٍ إسلاميٍّ يُعيد دمج المعرفة بالميتافيزيقا والأدب، ويبتعد من اختزال الدين في فقهٍ مُجرَّدٍ أو تعليمٍ تقنيٍّ منفصلٍ عن القيم.
وتناول إدريس رؤية العطاس للنبي محمد ﷺ بوصفه القدوة الكاملة للإنسانية، مشيرًا إلى أن هذا التصور يجعل من الرسالة النبوية المرجع الأعلى لفهم الوجود والمعرفة والأخلاق، ويعيد للقرآن والسُّنَّة موقعهما بوصفهما مصدرين لتكوين الوعي الكوني والروحي.
وتطرّق إدريس إلى علاقة فكر العطاس بالحداثة الغربية، مبرزًا أنه لم يتبنَّ موقف الرفض الكلي، بل دعا إلى قراءةٍ نقديةٍ تستوعب المنجز العلمي دون أن تنفصل عن الميتافيزيقا الإسلامية. فالإسلام في تصوُّره لا يقف على النقيض من العلم، بل يُحدّد له غايةً أخلاقيةً تجعل من المعرفة طريقًا إلى العدل والعبادة لا إلى السيطرة والمنفعة المادية.
وأوضح المحاضر أن مشروع العطاس يجمع بين الميتافيزيقا والإبستمولوجيا والأخلاق والتعليم، مُقدِّمًا أدواتٍ فكريةً تُمكِّن المسلمين من مقاومة العلمنة والانفصام المعرفي، واستعادة التوازن بين العلم والإيمان. وأَبرَزَ أن استعادة “مفهوم الأدب” بالمعنى الذي حدده العطاس” هي الخطوة الأولى في نهضة الأمة؛ لأنها تُوَحِّد بين المعرفة والسلوك، وتعيد للعدالة معناها القرآني القائم على معرفة الحق والانحياز إليه.
وفي ختام المحاضرة، دار نقاش مفتوح بين إدريس والحضور تناول الأسس التربوية في فكر العطاس، وأثرها في إعادة صياغة المناهج التعليمية، إلى جانب جدوى مقاربته في مواجهة التحديات الفكرية المعاصرة.
وتأتي هذه الفعالية ضمن جهود مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية؛ لإثراء النقاشات الفلسفية والمعرفية، واستحضار إسهامات المفكرين في صياغة الوعي الإنساني، وتعزيز حضور الفكر الإسلامي في المشهد الثقافي العالمي.
 
 
 



