المقالات

سنة أولى تقاعد

واكب – خليل أبوحوزة – جازان

 

تقاعد نظاميا بعد أن بلغ الستين من العمر ، هيئته ووضعه الصحي لايوحي ببلوغه هذا العمر ، لم تكرمه ادارته التي افنى فيها شبابه متفانيا في خدمة بلده أولا ورؤسائه ثانيا ، زوجته عاملة ايضا بمرتب جيد ، ولازالت تحتفظ بشيء من حيويتها ونشاطها ، اتفقت مع أبنائها على تكريمه وفاء وتقديرا له .

اجتمعت العائلة الكريمة ، في فناء الدار الفسيح اقاموااحتفالا مبسطا ، دعي إليه الاصهار والأقارب والارحام ، تخلل الاحتفال بعض الكلمات المعبرة عن الوفاء والعرفان لهذا الرجل العظيم ، هذا الربان الذي قاد سفينة الأسرة في بحر الحياة ، على مدى أربعين عاما ، قادها بصبر وجلد ، وبوقفة القبطان المساعد له (الام) الى جانبه دائما ، حتى اوصلها بفضل الله وتوفيقه لبر الأمان ، رغم ماواجه من عواصف وامواج عالية ودوامات خطرة ، تزوج الابناء والبنات واستقلوا .

في نهاية الحفل قدمت للمكرم الهدايا من الأبناء ، وقدمت الزوجة هديتها مفتاح ” باص ” احدث موديل استمارته باسمه ، رسالة واضحة لتكملة مشوار الحياة ، في الحركة بركة ، وعدم الركون إلى الجلسة المملة والمميتة معا .

تسلم هداياه وشكر بر الأبناء وأثنى على امهم ثناء ذرفت منه العيون ، وسط فرحة وتصفيق الجميع ، ثم تناولوا طعام الوليمة التي أعدت لهذه المناسبة ..

من هنا بدأ المشوار الجديد كما أرادت الزوجة وخططت له ، ولأنه ممن يوثق فيه عدلا واستقامة ، امتلأ باصه بالمعلمات لنقلهن من مدينته والى مدارسهن المتفرقة ، كانت زوجته أولى الراكبات معه كمحرم له وهمزة وصل بينه وبين المعلمات ، فيمالواحتاجت احداهن غرض ما ، مضى الشهر الأول ، استلم الأجرة فإذا هي تفوق معاشه التقاعدي الضئيل باربعة اضعاف اوتزيد .

أبتسم له الحظ من جديد ، لكن زوجته اصابها بعض التعب والارهاق ، لم تعد قادرة على ان توفق بين عملها المتغير دائما بين ساعات الليل والنهار ومرافقته ، وادارة شؤون المنزل ، بدات تفقد اهتمامها بمظهرها ، خبت أناقتها داخل المنزل ، تاتي من دوامها ترمي بنفسها في فراشها بثياب العمل ولاتفيق الامتاخرة ، لا لبس يسر ولا طيب ينعش الروح ولاشيء من اثارة .

طاف النصف الأول للسنة ، وهو يلتمس لها العذر ، حتى طاله إهمالها ، فتورها العاطفي وبعدها عنه وكثرة التذمر ..

إحدى المعلمات اللاتي ينقلهن تجلس دائما في المقعد الأخير المقابل لمرآة السائق ، لم يلاحظ طيلة الأشهر الماضية نظراتها له في المرآة من خلال نقابها .

ذات يوم وفي حضرة زوجته وزميلاتها ، خاطبته مباشرة بكنيته ، طلبت منه أن يذهب بها وأسرتها في عطلة نصف العام ، رحلة ليوم اويومين لأحد المتنزهات القريبة ، نظر في المرآة نظرة خاطفة ، لم يلمح الا عينين كحيلتين ، خلف حجاب خفيف ، انعقد لسانه ولم يرد عليها ، كفته زوجته مؤونة الرد وقالت : إن شاء الله .

شعرت بالاحراج ، حين همست زميلتها في اذنها : المفروض تكلمين ام فلان زوجته ، والالماذا هي معنا ..

في المساء سأل زوجته عنها فاعطته وصفا تفصيليا عنها ، بأنها (قائدة مدرسة ) يتيمة والدها متوفي وأمها عجوز ولها اخوين في سن المراهقة فقط ، فقال : ألم تتزوج ؟ قالت لا ، خطبها أحدهم واشترط ان ينقل بها بعيدا عن أمها واخوتها فرفضت لأنها العائل الوحيد لهم ..

لم تعلم انها بوصفها ذاك حركت فيه مشاعراواحاسيسا كاد ينساها ، او بالاحرى نسيها في ظل عزوفها المتكرر عنه ، فبدا ساهما مفكرا كلما خلا بنفسه .

على استحياء كان يختلس النظرة تلو النظرة للمرآة ، دائم الاستغفار بعد كل نظرة ، ولانه بشر فاض به ، عشقها في سره رغم فارق السن ، فكر في الارتباط بها زوجة على سنة الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ..

كلما تذمرت عجوزه ليلة ، واكثرت التشكي ، وزاد نفورها منه ، زاد في سره إصرارا على التقدم لخطبة القائدة رسميا .

لم ترى عليه زوجته يوما علامات عشق او هوى ، سوى حركات بسيطة كان يعملها قبل التقاعد ، كحلاقة ذقنه والتنعيم اليومي وصبغ الذوائب والعنفقة ، القائدة معجبة بشخصيته هدوئه رزانته ووقاره فقط ، لم تفكر فيه زوجا او تعشقه ، لكن فيما لو حصل لها نصيب خير فيه اوفي غيره لامانع لديها ، ان كان في مثل رزانته ووقاره .

حان يوم الرحلة ، ايقظته وقد صنعت له فطيرة خبز على طاوة ، وملات ثلاجته المعتادة قهوة ، وقالت له : استودعتك الله ، عزم عليها بمرافقته منها محرما ومنها تغيير جو ، كعادتها اعتذرت بآلام عظامها ومفاصلها ، ( الله اكبر عليها ) وقالت : من جهة المحرم اخوتها رجال كبار وامها عجوز كبيرة ، فاستدرك وقال : لكن انت قلت اخوتها مراهقين ؟ قالت لا ابدا بل رجال ، الكبير في الثانوية العامة ، والصغير في آخر سنة متوسط ، يمكن خانني التعبيرانذاك ، أخذ فطيرته وقهوته ثم ودعها وخرج ..

وصل والجميع في انتظاره ، قد حزموا متاعهم ولوازم رحلتهم ، ركبوا وركبت هي في مكانها المعتاد ، دعتها أمها لتجلس بجانبها عند النافذة اليمنى ، فقالت : هذا يمه مكاني ايام الدوام اعتدت عليه ، احببته لايمكن ان افارقه بهذه السهولة ، دغدغت تلك الكلمات مسامعه ، وكأنها تلمح لشيء ما ، هكذا فسره قلبه الاخضر ، رغم انها لم تكلمه غيرتلك المرة قط ، ولم تقصد بكلامها إلا المقعد ، نظر للمرآة وقد خرج من حدود المدينة ، فإذا هي قد رفعت عن وجهها طبقة من طبقات حجابها ، لم تبق الا طبقة شفافة ، ظهر من خلالها وجه كالبدر ، كرر النظرفسرت في اوصاله رعشة كاد أن يجنح بالباص عن مساره ، بلع ريقه (ومرس حمره ونشله) مرات ومرات ، لم ينتظر حتى يصلوا ، اوقف الباص على جانب الطريق ، استجمع بعض العبارات التائهة ، التفت للأخ الأكبر الذي يجلس إلى جانبه وقال : شوف ياولدي وانت ياامه ، صلوا على رسول الله ، قالوا جميعهم : اللهم صل وسلم عليه ، قال : اعرف انه ليس بالوقت المناسب ولا المكان ايضا ، ولكن أحببت أن اقول كلاما أريح به نفسي أولا واخسأ به شيطانا ( يهدرسلي ) ، لااعلم ان ماساقوله صوابا وله قبول والا خطأ لايقبله العقل والمنطق ، وسط ذهول الجميع قالت الأم : قل ياامك شغلتنا ، استجمع أمره ثانية وقال : انا أخطب ابنتك هذه أريدها زوجة لي على سنة الله ورسوله ، اذا لم يكن هناك مانعا من موانع الزواج ، هذا ماعندي وسلامتكم ، لكم من الآن حتى نروح من الرحلة ، تشاوروا وتدابروا ، وردوالي الثانية ، ثم حول المرآة عنها وواصل سيره ..

نقلت الأم من مقعدها وجلست الى جانب ابنتها ، ناقشت معها الأمر ، أبدت إعجابها بصدقه وصراحته ، سألت ابنتها عن رأيها فيماسمعت ؟ دونما الحاح اواقناع وافقت ، إن هو وافق على بقائها في دارها ورعاية أمها واخوتها ..

كانت أغرب خطبة وأسرع زواج تتم اولى مراسيمه في باص على الطريق ، حيث وافق الجميع ووافق هو على كل شروطها ، وتم زواجهما فور عودتهم من الرحلة ..

أخبر زوجته الأولى بزواجه ، فتعقلت وتفهمت حاله الذي وصل إليه من غفلتها عنه واهمالها له ، فباركت له ولزوجته الثانية ..

قضى الاسبوع الأول لدى الزوجة الثانية ، كما نص الشرع ، اسبوعا للبكر وثلاثة ايام للثيب .

منذ أربعين عام ونيف ، لم تنم زوجته الأولى وحيدة بين أربعة جدران ، لاجليس ولاانيس ، ففي أول ليلة أثناء غياب زوجها عنها وهي تعلم انه عندزوجة أخرى ، ادركت جلل مصابها ، وكبر خسارتها ، نتيجة إهمالها لنفسها وزينتها ، ونشوزها المتكرر بداعي التعب والعجز ..

لم تستسلم لماراودتها من وساوس شيطانية في غيابه ، طلب ( الانفصال )او(المحاسبة )او( التهديد بسحب الباص )او( حرق ملابسه واشياءه) كثير من الوساوس ، لكنها كماتعقلت وتفهمت في الاولى ، أيضا استخدمت عقلهافي الاخرى ، فقصدت الخياطة ، خاطت لها اجمل الثياب ، ذهبت لمحلات التجميل ، شدت بعض تجاعيدها وصنفرت خدودها ، جلبت اذكى العطور والبخور ، عضت وعكرت ، ملأت شيلتها فلا ، كل ذلك استعدادا لليلة مجيئه بعد قضاء الاسبوع الذي شارف على الانتهاء ..

انتهى الاسبوع بانتهاء إجازة نصف العام ، أخبر عروسه بأن من الليلة يبدأ التقسيم في الليالي والأيام ، وأرى يوم وليلة لها ومثلها لك ، إلا اذا رأيتم غير ذلك ، وافقته وقالت : كماتحب ، ودعته بقبلة رقيقة وهو كذلك ، شغل باصه وانطلق للحبيب الأول .

طيلة الاسبوع الماضي لم يزر بيته الأول الا طشاش ، وهو قائم على ( حذافيره ) ، لم يعلم بالتغيير الجذري الذي حصل في غيابه ، فلما وصل واطفا محرك الباص ، استقبلته عروس في كامل زينتها ، الفل والكاذي وريحة العود تنسنس من زوايا الدار ، أصيب بدهشة مما راى ، لم يصدق انه في علم ، حتى أمسكت بيمينه ، حيته هلت به ورحبت وقبلته 99 قبلة مفرقة بالخد والكف والفم ، حتى بلغ الفراش ، قدمت له أصناف الطعام الذي اعتاده من ذي قبل ، مضت الليلة واليوم كلمح البصر ، فعرض عليها التمديد لليلة ويوم آخر ، وهو قد أخبرها باتفاقه مع الزوجة الثانية على ليلة ويوم ، فرفضت وقالت : روح واقض عندها ليلة ويوم ، ثم أخبرها بأنك ترغب تغيير القسمة ، حتى لاتظن بنا سوءا ، ففعل .

بعدها عدل القسمة إلى ثلاثة أيام هنا وثلاثة أيام هناك ، انتهت ( سنة أولى تقاعد ) وهو يغير ويعدل في جدول قسمة الليالي والأيام بين الاثنتين وهما تتنافسان في تدليله .

=======================

إلى اللقاء مع المفاجآت في ( سنة ثانية تقاعد )

= خليل ابوحوزة =

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى