المقالات

قضية “الحسيكان “: من فتنة الحناف إلى فجر التسامح

واكب – بقلم الزاهد النعمي

هذه القضية—بكل أحداثها وملابساتها—تعكس أبعادًا مختلفة وجوانب متعددة: اجتماعيةً وقبليةً، شرعيةً وقضائيةً، إداريةً وقياديةً، إنسانيةً وقيميةً، بل وحتى جغرافيةً. فهي لوحةٌ جامعةٌ لمجتمعٍ تتقاطع فيه الفطرةُ بالشريعة، والعُرفُ بالنظام، والعاطفةُ بالعقل.

فطرةُ الله التي فطر الخلق عليها، وكتابه الذي أجراه بين الناس، وحكمُه الذي أمضاه، وشرعُه الذي شُرِّع ليُحكَم به الذين آمنوا واتّبعوا سبيل الحق ودينه القويم، وسنّة نبيّه المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، هي الميزان الذي قامت به السماوات والأرض.

فأول الخلق اختلف ابنا آدم على قُربةٍ يتقرّبان بها إلى الله، فقتل أحدهما الآخر، فشُرع القصاصُ حدًّا لمن قتل نفسًا بغير حقّ. وفي الإسلام جاءت “الدية” حقًّا لوليّ الدم إن تنازل، وتكريمًا له، وفرصةً للجاني إن تاب وندم، ونشرًا لروح التسامح والرحمة في الأرض.

 

قبل نحو عشرين عامًا، وقع في المخلاف خلافٌ بين أخوين جمعهما رحمٌ ودينٌ ووطنٌ واحد. وفي ساعةٍ غلب فيها الغضبُ والعجلةُ، وساد فيها الشيطانُ وحكمها الطيش، قتل حسينٌ أخاه عليًّا. ولما أفاق من غفلته وهدأت ثورته، ندم أشدّ الندم، وحمل أخاه بيديه إلى المستشفى محاولًا إنقاذه، لكن هيهات؛ فالروح قد فارقت، والأجل قد انقضى. أُلقي القبض عليه، وصدر بحقه حكمٌ بالقصاص، وأودع السجن، انتظارًا لبلوغ أصغر أبناء الفقيد الحلم، ليقرر مصير قاتل والده كما نصّت الشريعة.

ومثلما عرفت المخلاف في هذا العصر هذه المأساة الحديثة، فقد شهدت في قرونٍ مضت مثيلاتٍ لها. ففي عام ١٢٠٠هـ نشبت حربٌ دامية بين المحلة والنعامية بالعالية، إثر مقتل رجلٍ عبسيٍّ يُدعى “الحناف”—كان حليفًا للسادة—على يد صاحب ثأرٍ من المحلة. وتحالفت الملحاء مع المحلة لما رأت جورَ بعض بني عمومتهم في الخصومة. واستمر القتال ثمان سنواتٍ، تعددت فيها الأطراف والأحلاف، وسالت فيها الدماء، واشتعلت فيها فتنةٌ اشتهرت بـ«فتنة الحناف». كانت تلك الحربُ صورةً لزمنٍ غابت فيه الدولةُ المدنية، فكانت القبيلةُ هي الحاكم، والعُرفُ المؤطرُ بالشريعة هو النظام، لكن دون مؤسساتٍ تحفظ التوازن وتُنفّذ الأحكام.

أمّا اليوم، فالأمر مختلفٌ تمامًا. فقد وُجدت الدولةُ الراشدةُ التي تُقيم العدل بالحق، وتحكم بالشرع، وتحفظ الدماء والأعراض، وتُعيد للإنسان كرامته. لم تَعُد القبيلةُ هي القاضي ولا السيفُ هو الحكم، بل النظامُ والميزانُ والقانونُ الذي لا يُحابِي أحدًا ولا يَظلم أحدًا.

ومع أنّ الجريمة واحدةٌ في أصلها—سفكُ دمٍ بغير حقّ—إلّا أنّ المجتمع تغيّر في وعيه ومسالكه. لم تَعُد المآتمُ تُنصَب لطلب الثأر، بل لطلب العفو، ولم تَعُد الوجاهاتُ تُهيّج النفوس، بل تُطفئها، وجلساتُ الصلح تُدار اليوم في ظلّ القضاء والشرع، وقلوبها عامرةٌ بالإيمان والتسليم لقضاء الله وقدره.

قضيةُ «الحسيكان وقلعب» إذا ليست حادثةً عابرة، بل مرآةٌ صافيةٌ تُظهر مدى نُضج المجتمع، وكيف استطاعت الدولةُ والقيادةُ الرشيدةُ أن تُحوِّل الانفعال إلى وعي، والثأر إلى تسامح، والغضب إلى إصلاح. فقد شهدت القضية مشاهدَ إنسانيةً خالدة: أمٌّ تبكي وتدعو، ووليّ دمٍ يُوازن بين الغضب والرضا، وشيوخُ قبائلٍ يطوفون للصلح، ورجالُ أمنٍ وقضاةٌ يسهرون على الحقّ، وأئمةٌ يذكّرون الناس بأنّ «من عفا وأصلح فأجره على الله».

 

ولم يكن هذا التحول ليحدث لولا حكمةُ ولاة الأمر وحرصُهم على جمع الكلمة وصون الدماء؛ فالدولةُ اليوم هي الراعي الذي يمدّ يده بالعفو كما يمدّها بالعدل، ويغرس في القلوب أنّ الرحمة ليست ضعفًا، بل قمّة القوة، وأنّ الإصلاح بين الناس أعظم أجرًا من القصاص، متى ما تحققت التوبة ورضي أولياء الدم.

وفي مشهدٍ مهيبٍ اختتم فصولَ هذه القضية، استقبل سموّ أمير منطقة جازان الأمير محمد بن عبدالعزيز حفظه الله، أولياءَ دمِ المجنيّ عليه قلعب، الذين أعلنوا عفوَهم وتنازلَهم عن قاتل والدهم لوجه الله تعالى ثم بشفاعة سموّه الكريم. كان ذلك الموقفُ تتويجًا لمسيرةٍ من الحكمة والرحمة، وتجسيدًا لسياسة القيادة الرشيدة التي تسعى إلى إرساء قيم العفو والتسامح في المجتمع. لقد سجّل سموّ الأمير بهذا الموقف صفحةً بيضاء في سجلّ الإنسانية والقيادة، إذ جمع بين سلطة الدولة ورحابة القلب، وبين هيبة المنصب وصدق النية، فكان شفيعًا في خير، ووسيطًا في إصلاح، ومثالًا يُحتذى.

 

قبل الختام خالص الشكر والامتنان لكل من أسهم في هذا الصلح المبارك وإنهاء ملف الدم وعلى راسهم:

– سمو امير المنطقة صاحب السمو الملكي الامير محمد بن عبد العزيز على متابعته القضية ورعايته الوساطة شفاعته لدى الورثة.

– ال قلعب وفي مقدمتهم الاستاذ محمد قلعب وابناء الفقيد. ريان واخوته واهله على سمو خلقهم وطيب انفسهم وتسامحهم.

– سعادة محافظ صبيا د.سلطان عجمي على متابعته المستمرة ودعمه كافة الجهود.

 

– نائب شيخ شمل المخلاف الشيخ الزاهد بن العابد بن محمد الزاهد، على حكمته وسعيه الدؤوب.

 

– مفتي جازان الشيخ محمد شامي شيبة، لما بذله من توجيهٍ شرعيٍّ راشد.

 

– شيخ المحلة الشيخ أحمد ربيع، على مبادراته ومساعيه.

 

– شيخ أبوالسلع الشيخ محمد شبير، لما قام به من جمعٍ للكلمة وتطييبٍ للخواطر.

 

– شيخ الملحاء الشيخ عقيل عواجي، على حُسن الوساطة ورعاية الصلح.

 

– شيخ أبوالقعايد (المرشّح) الشيخ محمد حنين حربوش، على ما بذله من حضورٍ ومتابعة.

 

– اللِّجان التي سعت في الدية والصلح بكل مستوياتها، تنظيمًا وتنسيقًا وتواصلاً.

 

– أعيان وأبناء الملحاء والمخلاف،والمنطقة لما أظهروه من وعيٍ وتكاتفٍ ونُبل موقف.

 

– الأيادي الكريمة التي ساهمت في الدية من سائر مناطق المملكة، سعيًا للأجر وإغلاقًا لباب الفتنة.

 

 

وهكذا، تظلّ قضية الحسيكان وقلعب شاهدًا خالدًا على أنّ العفو عند المقدرة ذروةُ المجد، وأنّ في ظلّ هذه الدولة المباركة تسكن النفوس وتُروى القلوب، وتُغلق ملفات الدماء لتُفتح صفحاتُ السلام.

 

بقلم فاخر كتبه

الزاهد محمد الامين النعمي

٣٠ / ١٠/ ٢٠٢٥م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى