لماذا الاحتفاء بالخضير؟
لو اخذنا الامر بحيادية مطلقة فإن الخضير ليس اكثر من حبوب الذرة، تقطف وتطحن وتخبز لتؤكل قبل ان تنضج تماما .
لكن الأمر ابعد من ذلك ، انه موغل في الذات والذاكرة الجمعية للانسان في تهامه، انه تأريخ حياة هذا الإنسان .
والخضير للفلاح تعني اكثر من كسرة الخبز، انها تعني ان الناس قد نجت من الفاقة، تجاوزت الصيف القاسي وانها الآن على مشارف الحصاد ، و تفادي غائلة الفاقة وتأمين الغذاء لكل العام.
لماذا الخضير؟
في الزمن القريب البعيد ، كان اعتمادنا كليا على ما تهب الأرض، وكان المحصول الرئيس حبوب الذرة، وعندما تشح الامطار وتشح السيول، يتعذر استنبات الذرة، ويحدث الشح والفاقة ، وتتجول الناس في هجرة داخلية و الى حيث يتوفر حصاد الخريف ، ويسمى هؤلاء ( المخاضرة) (كتبت عنها في روايتي ( جنوب جده شرق الموسّم).
واشتقاق كلمة المخاضرة من البحث عن الخضير.)
وفي هذا الرحيل تتوثق عرى صداقات وتولد قصص حب ، وتشتعل اماسي رقص لم يعد ، وقد تُرتب زواجات ، ويزهر الحناء في كفوف الصبايا ، ويتصالح كل شيء مع كل شيء حتى تأخذ الأرض دورتها وتعود المواسم.
لماذ الخضير ؟
عندما يصل الخضير ذلك يعني ان الفلاح قد وصل ساحل النجاة، وصاحب الدين يستطيع تحصيل ديونه، والخاطب سيتزوج، و( الدرم ) سيختن ، وستبنى بجانب العشة عشة جديده ، ومن يريد الحج سيؤدي فريضته، وكل هذه المواقيت تظل مؤجلة حتى تصل طلائع الخضير وبعده الحصاد.
لماذا الخضير؟
و الخضير ليست الخبزة الطرية ولا العذوق التي تباع الآن على الطرقات ولا الصور ولا المهرجانات،انه ذاكرة الاباء والأجداد، الرجال والنساء الذين يبقون طوال العام يحرثون الارض، ينظفونها من الحشائش، يقيمون السدود والمداميك التي تحتجز الماء حتى تشرب الارض، انه مراقبة سحب المواسم و والش العشايا و ( يامطر تعاله سيّل امجفاله) ثم استقبال الماء من حيث يأتي والسير به الى حيث يطاوع ، قصة السيل كل عام و هبة الجبال لسهول تهامة ، القصة التي اخشى انها الآن انتهت.
لماذا الخضير؟
انه حرث الارض، مراقبة البذور ثم القصب والعذوق حتى وصول طلائع الخضير ، انه القلق على المحصول وسهر الليل ، الانتظار اللذيذ لهذا الوليد وهو يكبر، المعارك اليومية بين العصافير والفلاح ، الصباح الذي يشرق بالفرح كل يوم حتى تعود الجِمال محملة بحبوب الحصاد.
لماذا الخضير؟ انه الحكايات التي تولد على هوامش الانتظار، قصص الحب التي تتفجر في القلوب الطرية ، الزرع الذي يحفظ الاسرار، الهمس والمواعيد ، اصوات اوراق الذرة في العصاري ، الشمس وضوؤها ، القمر وفضته، والمواعيد ولهفتها، الخضير ليس سنبلة ولا عود قصب، انه دفتر عشق يكتب كل عام.
لماذا الخضير؟
انها قصة الفلاح وارضه، البلاد التي توارثتها الاجيال ، ورق الحجج الصفراء ؛ باع فلان من فلان من فلان موضعا من الأرض…..انه الحنين المندس في الذاكرة وما هو اكثر وما هو ابعد وما هو اعمق، انه ( جنات البلاد) المخبؤة في اللاوعي والجينات المتوارثة في كامل الوعي.
لماذا الخضير…..؟
انا العيد المعتاد لأبن هذه الأرض في هذه الأرض ومن خير الأرض.
بقلم عمرو العامري-جازان