طرنجه
الأستاذ علي الجبيلي
أذرف من عينيك دمعتين وإقرأ الفاتحة على روحها
مرتين.
ودن النخل دن
وفوقه الطير غنى
مابين فاغي وحنا
ولا هب النسيم اليماني
هكذا كانت أصواتهم ترتفع بهذه الأهزوجة وهم يودعون الديار ويلوحون بأيديهم النخيل وقنواته الدانية المتباهية بألوانها …وبوادر علامات الإستواء في ثمارها وتمايل قاماتها الشامخة الطاعنة عمق الأفق كلما هزت جذوعها رياح الشمال الصيفية أو نسمات الجنوب القادمة من أعالي البحار
بغيوم وقطعان سحبها المتراكمة في سماء جزيرتهم المؤطرة بأحزمة الأمواج وتراقص مياه الشطآن الموشحة بزبد هياج البحر
الصاخب وتلاطمه المخيف
في بعض الأحيان بتلويح أكفهم المترعة بلوعة الوداع
وأشواقه يودعون السواحل ناصعة البياض ويذرفون دموعهم الحزينة مرارة بعد وقسوة فراق الأهل والأرض وما تختزنه جوانحهم من الذكريات …
والسماء عندما تكون صافية تسكب نداها رطوبة مصحوبة بلسعات البرد القارس خاصة في ليالي الشتاء
والأجساد المنهكة جوعا وتعبا تأكل أمعاؤها الخاوية بعضها بعضا
إنها ليالي من الألم والعذاب والمعاناة تسرق عمر السنين
في أواخر فترات السلاطين المتسلطون على خلق الله تعالى في أرضه بره وجباله وبحره
أنا في أعالي البحار المعذبون في الأرض يبحثون عن أراضي سعيدة تتلقف احلامهم التعيسه في أجواء تشبه أناشيد الملح …في بعض بحار الدنيا.
كانت رواية واقعية أشبه بالأسطورة تلك التي خطتها أنامل الأديب العملاق عراب فرسان الجزيرة والتاريخ “إبراهيم مفتاح ” وقد بعث
بإهداء روايته التاريخية “طرنجة “لصديقه علي الجبيلي ممهورة بالتوقيع
تحت هذه العبارة : أخي
علي عبده الجبيلي في ظني أن من يقرأ طرنجة لا يملك إلا أن يذرف من عينيه دمعتين ويقرأ الفاتحة على روحها مرتين
وهي بحق تجربة أدبية إبداعية توثق واقع مرحلة تاريخية تنوف على أكثر من ١٠٠عام من عزلة الإبحار والكفاح والبحث عن مفاتن الدرر واللؤلؤ والمرجان …
وبطلة روايتنا عاشت وسط تقلبات معيشية واسرية واجتماعية غاية في القسوة ثم انفتاح ولا في الخيال ثم انتكاسة ورحيل فقد كانت بحق أحداث حياتيه متناقضة بالرغم من بهاء وطيبة وجمال تلك النفوس التي تلقفت لقيطة البحر واخرجتها من ظلمات الحياة الي أبهى النور والدور والحلل
وقد عاشت في رعاية وطيبة الرجل اللؤلئي الحنون وزوجته العاقر وقد تعاملو معها وكأنها إبنتهم …
وانتقلت
من بيئة السكنى في الخرائب
والنأي
الي تلك القصور الصخرية المبنية على اجمل الطرز المعمارية الشرقية وأروح المنقوشات والرسوم الهندية والمغربية الفاتنه
وسط الخدم والحشم
وقد وهبها سيدها الإسم البهي فخامة وجمالا منذ حضورها المبكر لمنزله حينئذ قال لأصدقاءه الخمسة في مجلسه ليمنحني احدكم حرفا من حروف الأبجدية الثمانية والعشرون ولنجمع هذه الأحرف ونركبها ونطلقها إسما لهذه الفتاة التي سخر لونها البرونزي وعيناها العسليتان وفمها المشقوق كوردة وإنفها الإغريقي المقوس أنظار مجالسيه
وحيث قدم كل فرد منهم حرفا.
إذ رست سفينة بلاغتهم على إسم ط ر ن ج ه
حيث عاشت في كنف سيدها الذي خسر كل تجاراته وامواله وتبدلت آماله واحواله ثم لم يلبث أن أسلم روحه الي الله بعد راضيا قانعا بما كتبه الله وبعد كفاح مع العلل والمتاعب
ولتتوالى أحزان ترنحه الذين غادرو اسرتها والمهاجرون معهم الي شواطئ مجهولة المعالم ولم يعودو من رحلتهم تلك بعد …
ولتبدأ احلام عشقها وغرامها مع نديم معاناتها مجهول النسب الذي غادر تلك البقعه الي لا عودة ثم لم تطل بها الأيام لتحلق بركب المغادرين من كوكب هذه الحياة وسط حزن وآهات كل اولئك الذين علمو بسلامة صدرها وطهارة سلوكها حتى لو تعثرت سنين طوالا في التخلص من لهجتها الحقيقية التي صاحبتها من أعماق قارتها السوداء لحين رحيلها…..
قراءة مختصرة في رواية طرنجه للأديب الكبير ابراهيم مفتاح صادرة عن مشروع ١٠٠كتاب الذي تقوم عليه أدب للنشر والتوزيع بدعم من الصندوق الثقافي للسعودي.