ذاكرة
محمد الرياني
أبحثُ عن جمجمتي!
حيرةٌ تملكتني حقًّا!
أثقُ كثيرًا في أن هذا الجسمَ المكوَّر العظيمَ الذي يعلو جسدي هو رأسي وأنه جزءٌ مني؛ ولكني أشك في محتوياته وخرائطه.
نسيتُ حقلنا الذي كنتُ أطاردُ فيه العصافير َالملونةَ وخاصةً الصفراء منها ولا أصيدها لأني أحبها، نسيتُ الخارطةَ التي تقودني إلى الساقيةِ فأغسل قدميَّ ونصفَ ساقيَّ.
آه ثم آه؛ ما أقسى عذاب النسيان!
ذات مساءٍ نسيتُ صنبورَ الماءِ مفتوحًا بعد أن غسلتُ وجهي، أردتُ أن أشاهدَ القمر بكلِّ عنفوانه ونحن في منتصفِ الشهرِ والبدرُ يتربَّعُ على الكونِ والناسُ يسهرون في الخارج كي يلمعَ نورُه في خدودهم، تركتُ الماءَ ينسابُ على الأرضِ واتجهتُ لأرى القمر، جذبني القمرُ فتركتُ كلَّ شيء ومعه النسيان ؛ حتى تلك التي اعتادتْ أن تشاركني السهرَ وطلَّ القمر تركتُها، ومع هذا أغلقتْ محبسَ الماءِ بعدما دخلَ الماءَ غرفتَها القريبة، جاءتْني بثوبها الأبيضِِ الذي يشبهُ لباسَ القمر، تذكرتُ أني نسيتُ الماءَ بعد أن غسلتُ وجهي حُبًّا في القمر، أمسكتْ بيدي وأعادتْني ، صارحتُها بأن رأسي فقَدَ كثيرًا من ذاكرته، لم يعد يتذكر أولَّ ليلةٍ معها ، ولا تلك الليالي مع أمي في الحقل، ولا عدد سنوات الدراسة، طلبتْ مني أن أجلسَ لتحكي لي حكايةً كما كانت تفعلُ أمي معي صغيرًا ، شعرتُ بالراحةِ وهي تمسِّدُ جبهتي ورأسي ومؤخرةَ رأسي، مرَّ كثيرٌ من الليلِ وأنا أشعرُ أن دائرةَ عقلي قد استعادتْ بعضَ خرائطها، أصرَّتْ عليَّ بأن أغمضَ عيني، وأن أنام، فعلتُ ذلك وأنا أتحسسُ سقفَ رأسي، عاد إليَّ بعضُ ذاكرتي ففرحتُ ، جاء اليومُ الثاني ولايزال القمرُ يحتفظُ ببهائه، أردتُ أن أختبرَ ذاكرتي، فتحتُ الصنبور، غسلتُ وجهي لأرى القمرَ من جديد، أغلقتُ محبسَ الماءِ بكلِّ ارتياح، خرجتُ لأرى القمر، لم تلحق بي وتركتْني لوحدي، عرفتُ أن الماءَ لم يتسلل إلى غرفتِها، عدتُ إليها لتضيفَ إليَّ حكاياتٍ أخر ، تجلّتْ ذاكرتي كالقمرِ والناسُ ينتظرونه.